- قصة أدبية عن المفارقة بين شعور المعتقلين وهم تحت رحمة الجلاد وشعورهم بعد تحررهم
غداً يوم حافل ! بهذه العبارة الموجزة بدأ أبي مع أمي حوار ما بعد نشرة الأخبار ، أخذت أمي مكانها قربه ، و هي تضع صينية الشاي على الطاولة القريبة منهما ، و أجابت :
- و بما سيحفل يوم غد ؟ ..
أجابها والدي بلهجة أثارت فضولي :
- غداً ستتم مبادلة الأسرى المعتقلين و رفات الشهداء المحتجزين عند الصهاينة ، بجثتين لجنديين صهيونيين .
كانت لهجة أبي كئيبة ، غم أنه قد زف لأمي بشرى سارة ، بشرى تجعلها تكف عن سفح دموعها ، كلما تذكرت المعتقلين البعيدين عن أسرهم ، أجابته و قد حمل صوتها انفعالها ، بعد أن اكتسى وجهها بملامح الأسى و التأثر :
- ليتني أستطيع أن أكون في استقبال الأسرى العائدين أو الشهداء المقبلين ، أريد أن أشارك تلميذتي " ميرفت " فرحتها لاستقبال أبيها بعد تحريره ..
اقتربت من أمي مستأذنة : سأذهب مع عمتي لاستقبال الشهداء و سأشارك في تشييعهم .
فوجئت امي بي : اما زلت تسهرين ؟ ظننتك قد نمت .
كان تناولي كوب الشاي من يدها يعني إمكانية بقائي معها ، بعد نوم أعلى مزعجَين في العالم - أخويَّ الصغيريْن - همست بخجل خوفاً من اعتراضهما :
- ليتني كنت ابنة أسير خارج من المعتقل غداً .. !
ابتسم أبي و أبعد نظراته عني ، فأمسكت يده معابثةً :
- أبي .. قل لي .. لو اعتقلتك إسرائيل الآن .. أكنت ستتعذب لبعدك عنا .. ؟ أم كنت سترتاح من ضجيجنا كما تردد دائماً .. ؟
- لقد اعتقلتني سابقاً .. قبل أن تولدي .. و تعذبت كما سواي .. اما الآن ؟؟ فلا أدري إن كنت سأتعذب شوقاً إلى ضجيجك مع أخويك .. أو سأرتاح من هذا الضجيج .. على أي حال .. سأتعذب حتماً ..
- إن تجربة السجن رهيبة .. إن أقدرنا إحساساً بمشاعر المحررين غداً هو أنت يا حاج .. و أخالك قادر على التعبير عنها .
هز أبي رأسه موافقاً .. و لاذ في التأمل الصامت .. خلتها فرصتي الأولى للحصول على موافقة منه للمشاركة في أحداث يوم الغد .. و لكن ..
- ألا تحتفظ بذاكرتك بموقف متميز حول تجربة الإعتقال التي عشتها سابقاً ؟
حرمتني أمي بسؤالها فرصة الحصول على الإذن المرجو .. و لكنها قدمت لي فرصة ذهبية ، لا أعتقد أنها تتكرر .. لأن أبي سيسمعني الآن ما يصلح للحديث عنه بين رفيقاتي .. كنت حتى اللحظة أجهل انني إبنة أسير سابق قبل أن أولد .. إذاً أنا كـ " ميرفت " تلميذة أمي .. و لكن ماذا لو اعتقل الآن والدي ؟ .. لا .. لا .. و طردت الخاطرة القاسية من بالي بحركة من يدي ..
لست كـ " ميرفت " أفرحها الله بعودة أبيها غداً . اما أنا فأفرح بسماع والدي :
- إن الناس تهتم كثيراً بتفاصيل الإعتقال .. و مرارات التعذيب الكهربائي و قسوة القيود على المعاصم .. و لسعات السياط فوق الأجساد صدقيني يا أم حوراء .. ثمة عذابات أخرى لا تقل أهمية عن هذه العذابات مجتمعة .
- أي نوع أهم مما ذكرت يا حاج ؟ .. هل بقي عذابٌ لم تذكره ؟
- هذا كله ليس بذي بال .. إذا ما قيس بتجربة أخرى ، يواجه فيها المعتقل شعوره بالحرية منفرداً بعيداً عن الإستهلاك الإعلامي ..
- لقد أثرت فضولي ! يُسأل المعتقل عادة عن شعوره و و هو يعيش تحت رحمة سياط الجلاد ، بل تحت لؤمها ووحشيتها .. لا عن شعوره بعد تحرره ؟
- هل تعلمين أنني بعد خروجي من المعتقل .. أغرقني الأحبة من أهل و معارف بكل ألوان الدفء و التعاطف ، و لكني مع مرور الزمن بدأت أحس أن الحرية عبء ثقيل .. لا تستغربي حتى أنا لم أفهم سر شعوري الوليد هذا .. إلا بعد ان قادتني قدماي ، بعد سنة من تحرري إلى حيث كنت أتوقع أن يكون ، أي مكان سواه .. كانت الشمس حارة جداً .. حارقة .. كانت الأرض تحترق بشواظ من لظىً تموزي الجمرات ، كنت وحيداً بين زملائي لا يؤنسني سوى صوت تحطم العشب اليابس تحت قدمي .. كنت منهمكا في توزيع كمبة من الطحين كلفني بها أحد أقربائي .. كان اعتقالي - أشهراً وسط المجاملات و التعريفات الجاهزة للحرية - مرهِقاً للغاية ، لذلك رحت أعمل كالآلة ، أسرعت في إنجاز مهمتي .. و ابتعدت عن مجموعتي قليلاً ، كان توقي للبقاء وحيداً يحثني على المسير .. فمشيت .. مشيت طويلاً .. حتى وصلت أمام سفح جبل .. و هناك وقفت .. و رحت أتأمل المكان المهيب من حولي .. تأملت الصمت الذي يلف حتى الهواء .. بحثت عن ظل شجرة .. ألقي تحته تعبي .. لم يطل بحثي .. وجدتها هناك بعيدة عن أقدام جبل .. كانت فوق ربوة ..
تساءلت أين أنا ؟ لم أعبأ بإيجاد جواب .. لأن النعاس كان قد غلبني و غفوت .. و تركت للنسائم الخفيفة مهمة إراحة أعصابي المتعبة منذ أكثر من سنة .. هل كان إغفائي السريع إجابة أولى لسؤالي عن قيمة الحرية ؟ لا حتماً .. لأن استيقاظي المفاجئ صفعني ، بعد أن تجاوب سمعي مع صراخ آت من أعلى الجبل .. أعادني إلى واقعي النفسي المر .. المرير ، فنهضت و أنا ما زلت أرغب في المزيد من النوم .. نهضت مرغماً .. مشدوداً لجهة الصوت الحاد الذي أيقظني .. مشيت صعوداً باتجاه أعلى الجبل من جهته الخلفية .. طالعتني الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بأعلى القمة .. و استطعت أن أتبين جدراناً شاحنة لزنازين متجهمة . تنتصب في أعلى الجبل .. و أصواتاً مختلفة تصل إلى تطوع النسيم يحملها كما هي .. حادة متشنجة ..
ذهلت و لم استفق من ذهولي إلا على صوت أحدهم كان يصرخ بشتيمة مقذعة .. فعرفت أنه صوت سجان لئيم .. و عرفت أن الصراخ المتوجع كان لأحدهم .. واحداً من رفاق الأمس .. و لكني لم أعرف حتى الآن من هو ؟ .. وقفت حيث أنا لم أجرؤ على الاقتراب خطوة واحدة .. و أين أنا ؟ سؤال لم يعد يعنيني .. ما يعنيني حقاً الآن أن أعرف .. هل استطاع النسيم حمل إلي أصداء عذابهم هذا الذي كنت أقاسمهم إياه قبل سنة .. أن يحمل إليهم صدى خفقات قلبي الذي نبض بشدة ؟ .. هل استطاع أن يحمل إليهم قطرة من الدمع الحقيقي الذي انفجر من عيني .. للمرة الأولى منذ أكثر من سنة ، إن سياط الجلادين المجرمة لم تستطع أن تفجر في عيني دمعة واحدة و هي تنهال على جسدي .. كنت أتحداهم بصمتي .. بقدرتي على كتم مشاعري .. و كان هذا الأمر يثيرهم بجنون ، و كنت أجد لذة غامرة في إثارة جنونهم .. كنت عاجزاً عن الدفاع عن نفسي فلا أقل من أن أتسلى بلعبة إثارتهم بامتناعي عن البكاء .. و لكن سياطهم التي سمعتها عن أمتار .. خارج جدران الزنازين .. فجّرت دمعتي و هي تنهال على جسد سواي .. بكيت كما لم أبك من قبل .. وولد عندي سؤال جديد يحز في نفسي كلما استدرجتني الأيام لفرح ما ..
ماذا تراهم يفعلون الآن .. رفاق الأسر .. أخوة العذاب و السوط .. و لؤم الجلاد .. كيف يثابرون على الصبر و التحدي .. ووجدتني أفكر بالشعر لأول مرة من تحرري ..
- بالأمس كنا .. آه من " كنا " و من أمس يكون .. نغدو وراء ظلالنا .. لا نرهب الصمت الذي تضفيه أشباح الغروب .. لا نرهب السور الذي من خلفه يأتي الضياء .. و لربما مات الضياء و لم يعد .. كنا و من أمس يكون .. بالدم نرسم ما نشاء على الجدار .. حتى النجوم .. كنا نقول إنها كانت عيون .. ترنو إلى الأرض بحب و فتون .
و بعد أن هدأت ثورتي الباكية .. عدت إلى قريتي بعد أن عرفت أنني كنت أقف أمام معتقل الخيام الذي سرق من عمري .. أعواماً .
و بعد أن تحسست بلا وعي مني معصمي أبحث فيهما عن أثر القيد المؤلم الذي كان يشد عظامهما أثناء وصلات التعذيب .. لم يقنعني خلوهما أنني تحررت .. فقد أيقنت و أنا أقف خارج زنازين الخيام أنني أكثر اعتقالاً قربها مني في داخلها .. لأنها بجدرانها الشاحبة في أعلى الجبل تستمر في اعتقال أخوة لي .. و تأكدت أنني لن أشعر بالحرية و بطعمها لذي يتحدثون عن نكهته .. إلا عندما يقتلع آخر قفل الآخر زنزانة .. خلف الأسلاك المكهربة فوق الجبل و عندما تقودني خطاي إلى أعلاه .. دون تردد .. حينها سنكون قد حررنا الجبل و نحن فوقه سنكون أحراراً ..
إلى هنا و صمت أبي .. فقفزت إليه و خبأت فوق كتفه إنفعالي و دمعي .. إذاً أنا الآن كـ " ميرفت " .. إبنة أسير سابق .. ربما اختلفت عنها بشعور والدي الذي سرت عدواه إلي .. إننا ما زلنا معتقلين جميعاً .. طالما طال زمن زنازين الجدران الكالحة في رأس الجبل ..
غداً .. سأروي لرفيقاتي حكايتي .. حكاية الزنازين التي لم تنجح في إبكاء والدي و هو بداخلها ، قابع في عتمة زواياها العفنة ، و لكن أصوات المعتقلين فيها فجرت دمعه أنهاراً و هو يسمعها من بعيد .. من موقعه في سفح الجبل...
و لربما فكرت ، و فكَّرَت معي رفيقاتي .. كيف نقتلع زنازين الخيام ؟ .. و متى نقتلع زنازين الخيام؟..
© 2006, Layla AL Moazen
roadend,نهاية الطريق,
Return To Literary Gate